يوم آخر من أيام شهر يوليو، اجلس في الزاوية التي اعتدت الجلوس فيها، الزاوية التي مَللتُها وملتني، على رصيف الشارع الحارق، الملاصق لباب منزلنا الواقع في منطقة هجرها سُكانها، اراقب الشارع الفارغ الذي يخلو من المارة، يتراءى لي أحياناً أن من يسير عليه يصاب بمرض جُذام لا شفاء منه، فيختفي ولا يعاود المرور مجدداً، اشعر بالدوار فالشمس في هذه الأيام من السنة لها أشعةٌ تخترق الرأس كالسهام المشتعلة، ولكني ابقى ساكنه في مكاني، بكامل عنادي وتصلبي، أُراقب شارع الأشباح في محاولة يائسة لرؤية طيف ذلك الصبي الذي وعدني بالعودة، ذلك الصبي ذو الملامح الباردة والعيون البائسة.
اسمي لمياء، عمري عشر سنوات، هزيلة البنية، قصيرة القامة مقارنة بمن هم في مثل سني، لي شعرٌ بني أشعث بلون الكاكاو، وعيناي دائريتان كأنهما طبقين صغيرين يحرسان أنفًا مقوساً بشعاً، لا يرتكز الا على شفة رقيقة لفمٍ صغير، ملابسي رثة لها ثقوبٌ تظهر أثناء الليل كما يبدو، وتتكاثر حتى الصباح، لست فقيرة، اذا كان هذا ما تظنون، فنحن من عائلة مقتدرة، ولكن أمي تقول لي دائماً ان هذه الأموال مُلكٌ لها هي ووالدي فقط وان علي ان اعمل حتى يصبح لي مالي الخاص، خالتي(أخت أمي) دائمة الشجار مع أمي فهي لا تتفق معها ودائماً ما تكرر على مسمعها جملة “اتقي الله في بنتك”، ولكن أمي صنمٌ نُحت من أيام الجاهلية، فكيف بصنمٍ لا يعقل أن يمتلك مشاعراً، هذا مالم تكن تعرفة خالتي.
أمرني والدي أن اركب في المركبة، فقد حان وقت العمل، في الطريق أستمع للتعليمات التي حفظتها فهي تتكرر بشكل يومي على مسامعي، يقول لي:
– اياكِ والعودة دون مبلغ أقله عشرون ديناراً والا لن تجدي عشاءً لكِ، اذا طلب منك شخص الركوب معه في مركبته ابتعدي فوراً، واذا امسكت بكِ الشرطة فالويل الويل لكِ.
لا أجيب، فقد تعلمت بالطريقة الصعبة أن لا جواب هو الجواب الصحيح فهو يضربني بقسوة مهما كانت اجابتي، كأن سؤاله ذريعة تبيح له الضرب، اترجل من المركبة وامضي في طريقي عند مدخل السوق المركزي، اباشر عملي المعتاد، وعندما اجلس على الرصيف لألتقط أنفاسي قبل العودة للعمل، اتذكر الصبي البائس، تمر علي صورته الضبابية، تبتسم لي وتمضي، ثم اعاود العمل
عند عودتي للمنزل بعد أن جمعت مبلغ ثلاثة وعشرون ديناراً، وسلمت المبلغ لوالدي ما ان خطت رجلي باب المركبة، وبعد أن سمعته طوال طريق العودة وهو يلعن الناس على بُخلِهم، وانه لم يعد هناك بشرٌ صالحون على الأرض، فالمال يقل بشكل مستمر والتسول يزداد صعوبة في كل يوم، انهم يصرون على تجاهلي كلما مددت يدي واغرقت عَيني بدموعٍ زائفة حتى استجدي عطفهم، او يرمقونني بنظرة احتقار كأني حشرة يجب التخلص منها، وما ان وقفت المركبة عند باب المنزل حتى لمحت الصبي من واقفاً عند الرصيف المقابل ينظر لي ويبتسم، غمرتني سعادةٌ فجرت قلبي، ترجلت من المركبة جرياً وتوجهة ناحيته وانا اصرخ اين كنت، لقد انتظرتك طويلاً، ضحك وقال لي انه يمر كل يوم من هذا الشارع ولكني لا انتبه لوجوده لاني كثيرة السرحان، هذا كذِب قلت له بانفعال، اجلس كل يوم لساعات على هذا الرصيف الهرم، لم تمر علي نسمة هواء دون ان الحظها، اسمع والدي يناديني بنفاذ صبر
لا رغبة لي اليوم بضربك أكثر من المعتاد ادخلي المنزل حالاً
.. ولكن يا ابي، انني اتحدث مع
.يقاطعني بصوت يكاد يمزق حنجرته، تعالي حالاً
.لا بأس سوف اراكِ مساءً في الساعة العاشرة، هذا وعد، يقول لي الصبي
اعترض بصمت، واجري نحو المنزل، بعد مرور عدة ساعات وبينما كان ابي وامي يتجادلون حول موضوعٍ يبدو انه مهم، لم استطع ان اسمع منه سوى عدة كلمات ( دواء – لا احد يعلم – ستختفي)، لم اُعَر المحادثة اهتماماً زائداً فقد كنت اراقب الساعة التي تأخرت عقاربها في إعلان موعد اللقاء، عند الساعة العاشرة تماماً، قمت بفتح نافذة الغرفة وقفزت الى الساحة الترابية، تسللت بهدوء الى ان وصلت الى الباب الصدأ الكبير الذي يفصل ما بيني وبين الصبي البائس، قمت بفتح الباب بكل حذر حتى لا أحدث ضجة يمكن أن تلفت انتباه ابي او امي، فتحت الباب اخيراً، وانطلقت مسرعة نحو الرصيف، وجدته هناك بابتسامته المعتادة وقام بفتح ذراعيه ليحضنني وقال لن يزعجك احد بعد الآن.
انا لله وانا اليه راجعون، اعانك الله في ما أصابكِ يا اختي.
– الذنب ذنبي انا، كنت اعلم انها تحتاج الى علاج، فهي دائمة الحديث عن صديقٍ لها تسميه الصبي البائس وعندما اسالها عن اسم هذا الصبي، تشرد وتتصلب نظراتها لدقائق ثم تقول لا اسم له، فهو مجرد صبي بائس، وتلبس ثيابها القديمة التي اصبحت صغيرة عليها، وتختفي من المنزل بشكل مفاجئ، دون ان نجد لها أثراً، في احدى المرات كدت اجن فقد مضت ساعات ولم نجدها حتى اتصلت بي قريبتي لتبلغني انها رأت لمياء تتسول في السوق المركزي المقارب لمنزلنا، لكِ ان تتخيلي صدمتني لم اصدق حتى رأيتها بنفسي، بعد ذلك حدثت والدها بأنها مريضة وتحتاج الى دواء ويجب علينا ان نعالجها دون ان يعلم احد حتى تختفي هذه الأعراض، لا بد ان سمعت حديثنا وهذا ما دفعها الى القفز من نافذة الطابق الرابع